لئن كانت امرأة اليوم تبدل الألوان مهوسة فتظهر نفسها دمية غربية "لا امرأة من الغرب" فعلينا أن نتطلع في ذلك الصوب من التخوم الى الإستعمار الإقتصادي الاجنبي وفي هذا الصوب منا الى أنفسنا نحن الذين شاركنا في هذا فسيّبناها لكي يصطادها في سهولة ويسر.
فأننا نحن الذين دعوها ضعيفة، كسيحة، مملوكة الرجل، بلا أدب، منزلاً، عنزة، "أم البنين" كما كانوا في عصر الرق يقولون. فجعلناها شيئاً غير الإنسان إذ تساءلنا: أتستطيع أن تمسك بالقلم أم هي لا تستطيع. ثم قلنا بعد هذا التساؤل: لو أمسكت به قد تكتب الى الغريب. وقد كان الأحسن في هذا الإستدلال أن نفقأ عينيها حتى لا ترى غريباً أبداً. فيطمئن قلب ذلك الغيور الّذي خيل له ضعف نفسه "خيانة" من زوجته اطمئناناً يداخله الى آخر العمر.
هكذا كنا نصون تقوى المرأة وعفتها. كان الصائن هو الجدار والصفد. لم نكن نعرفها إنساناً ذا فكرة وشعور وتربية ومعرفة. بل كنا نعرفها على أنها حيوان متوحش لا يعرف دجوناً ولا تربية. فخير الحافظين هو القفص. فمتى كان قفل الباب مفتوحاً تهرب ومن القبضة تفلت. وإنما عفتها يراع متى ير الشمس يطر. هي في ما يشبه السجن لا سبيل لها منه الى مدرسة أو مكتبة أو مجتمع. هي في المجتمع كما هم رامات الهند الأنجاس ليست في عداد الناس.
فقد كان الإنسان عندهم حيواناً إجتماعياً لا محل للمرأة في المجتمع وحيث له محل. فهم يحافظون عليها في خارجه. كان الشعار هو أن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وكانوا يرتقون في هذا الحديث النبوي المنابر فيقيمون الدنيا ويقعدونها بالحديث. ولكنه الرجل وحده هو الذي كان له الحق في طلب العلم.
أما المرأة _إلاّ اللائي كن في أُسر غنية تستطيع أن تستدعي المعلم الى البيت _ فقد كانت محرومة. فهي لاتستطيع أن تتمتع بمزاولة هذه الفريضة. ولم يكن للمرأة نشاط في مجالس الدين وأعمال التبليغ، ودرس القرآن والتفسير والحديث والفلسفة والعرفان والتاريخ. كل ما كان لها هو الإذن في الحضور في مجالس التعزية على نحو خاص غايته تحريضهن على البكاء. فالواعظ المعزي كان له في مستهل الكلام أن يرسل نفسه في الكلام على سجيتها.
فـ (يجود) بالكلام على الموضوعات العلمية. لأن المخاطب إنما هو الرجل. فلا علم للمرأة ولا معرفة حتى يكون لها قبل بأن تدرك موضوعاً في العلم أو موضوعاً لا يدركه العوام. ولئن خوطبت المرأة في هذه المجالس فكهذا كان الخطاب: "اسكتي. اسكتي ياضعيفة لا تتحركي. اسكتي طفلك". نعم. كان يقرع المرأة ويخاطب الرجل. وعندما يبلغ من عظته النواح يلتفت إليهن راجياً مرغباً مجلّلاً: "سيداتي!". ذلك لانه يريد منهم البكاء والنواح واللطم ونتف الشعور وبث الحرارة في مفاصل نواحه وعزائه. والمرأة التي كان شغلها في بيتها النسل وفي مجتمعها الدمع كانت فاطمة هي أنموذجهن الرفيع ومثالهن القويم فكان نسلها بنتاً كانت كزينب كانت قد شهدت لأيام خلت مقتل الأعزة ولا سيما ولديها.
وها هي ذي اليوم تقول وهي بأزاء امبراطورية عاتية موحشة مستبدة سفاكة هي امبراطورية بني أمية ومن الجرأة والمجالدة حيث عاصمة الرعب والإجرام في العالم: "شكراً لله منح لنا هذه الرحمة كلّها". هذه العظمة وهذه الروح الكبيرة أهي مظهر هؤلاء الـ (ستات) اللائي تزلزلهن الفأرة؟. لقد حرموا المرأة كل شيء، حتى الإسلام، حتى الدين، حتى معرفة دينها. ولأنها بلا علم كان لا بد من أن تغتاب فاغتابت. ولأنها بلا شاغل من العلم والفكر كان لا بد من أن تطبخ الحساء فطبخت، ولأنها لا تعرف السبيل إلى العلم والكتاب والمجالس والمنابر تعذر عليها أن تساوي الرجل العارف الذي يختلف الى المجالس والمنابر في اليوم الواحد بضع مرات.
لعمري هذا يعني أن تفلجوا يد إنسان لتعاقبوه بعد ذلك بالحرمان لأنه مفلوج. والباعث على الأسف أن مناعة الخرافات والتنفيس والجهالات والتخلف والسنن، وميراث الأنظمة البالية البدوية، والإسترقاق، وتسلط الأب، وحاجات الشهوة والنفس التي تشابكت فتضافرت فنسجت كبيت العنكبوت قد حجزت فيه المرأة ليكون لها في هذه الإقامة المحجبة دليل على دين الإسلام وعلى السنة وعلى محاكاة فاطمة. فكان هذا يجري باسم العفة وفي هذا السياق: "عليها أن تربي الأولاد" ولست أدري كيف لمن كانت ناقصة غير جديرة فقرُها دون فقر الرجل لا تملك علماً ولا كتاباً ولا تعليماً ولا فكراً ولا معرفة ولا حضارة أن تكون لها اللياقة بتربية الجيل _ جيل الغد؟.
لعل المقصود بالتربية هو التسمين. فما عسى أن يكون في طوق هذا المخلوق الضعيف القابع في البيت المتواري في الستر المفتقر الى الفكر والمعرفة والتربية أن يفعل في روح الطفل وعقله المعقد الحساس من الإنماء والإكتمال ومن تربية الروح. إنما تستطيع أن ترضعه وأن تغسل وتنشف. إن تكن من تربية فما هي إلاّ سَبَاب وبكاء وصراخ وغشية وصياح وتأوه. فأذا قدرت ضربته. وإن لم تقدر ضربت نفسها. وإن لم ينفع هذا ولا هذا ذكرت له أخاه الكبير وأباه مخوفة. فأن لم تجد نفعاً استعانت بالجن وعزرائيل والسرداب والدهليز. فأن لم ينفعها هذا في هذا الطفل المدعوّ عليه بالشرور استعانت بكائنات لا وجود لها، ولكنها مخيفة جداً.
فهي تذكر الغول والميت والظلام وما شابه هذه الاشياء التي تتراءى فتشيع الرعب في القلوب أجل تلك هي الذريعة التي تتذرع بها الى تربية أولادها هذه المرأة التي وقفت حياتها ووجودها على تربية الأولاد. وذلك هو الصحيح. فأنها لو شاءت أن تتوفر على نفسها فتعوّل على المعرفة والحضارة والقدرة في إنماء فكرها وتربية روحها لكان الإهمال في تربية أولادها!.